أما عن قصة بناء الكعبة، وهل كان لها وجود سابق على زمن إبراهيم الخليل(ع)؟! فإن ما يفيده ظاهر القرآن والسنة أن إبراهيم(ع) هو الموجّه إليه الخطاب بشأن هذا البيت العتيق، وهو المكلف برفع قواعده، وتوجيه النداء التاريخي للناس بأداء الحج، قال تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم} [البقرة:127].
وقال تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والركّع السجود} [البقرة:125].
وقال سبحانه: {وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود* وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق} [الحج:26ـ27].
وحين تحدث القرآن عن أولية البيت ربطه بذكر إبراهيم(ع)، فقال: {إن أول بيت وضِع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين} [آل عمران:96].
ويقول الطباطبائي في معرض تفسيره الآية الأخيرة: "ليس هو أنّ أول ما بني على وجه أرض، كما قد يتوهمه البعض، بل المراد أول بيت وضع للعبادة والهدى والبركة للناس، وهذا ما وردت به الرواية عن علي أمير المؤمنين(ع) في ما نقله ابن شهرآشوب عنه في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} الآية، فقال له رجل: هو أول بيت؟ قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه كان أول بيت وضع للناس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة، وأول من بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جُرهم، ثم هدم فبنته العمالقة، ثم هدم فبنته قريش" [الميزان، ج:13، ص:407، من وحي القرآن، ج:6، ص:160].
ويذهب السيوطي في كتابه الدر المنثور في نقله لرواية عن علي بن أبي طالب(ع) إلى مثل هذا المعنى حيث يقول في تفسيره الآية السابقة "البيوت كانت قبله، ولكن ما كان أول بيت وضع لعبادة الله".
وجاء في حديث عن أبي ذر(رض): "قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع أولاً؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة".
والمعروف أن المسجد الأقصى هو بناء يعقوب وهو ابن إسحاق بن إبراهيم و"ربما من بناء سليمان"، فيكون يعقوب قد اكتسب صفة البناء من جده الخليل(ع)، واقتفى أثره في تشييد بيوت الله تعالى.
ويقول الشيخ مغنية في تفسير آية (إن أول بيت وضع للناس)، لا دلالة فيه أنه أول بيت وجد على الأرض، بل هو ظاهر في أنه أول بيت وضع للطاعات والعبادات، لأن الناس، كل الناس شركاء فيه، وبديهة أن الناس جميعاً لا يشتركون في بيت واحد إلا إذا كان موضوعاً لجهة عامة، كالعبادة والطاعة، أما سائر البيوت فكل بيت منها يختص ببعض الناس دون بعض.
ويخلص السيد فضل الله إلى نتيجة هي أن الأنبياء السابقين مثل نوح لم يبنوا بيوتاً للعبادة، لأن القرآن لم يشر إلى ذلك ولم ينقل ذلك بطريقة مفصلة في التاريخ.
وربما كان المراد بأنه أول بيت للعبادة، المعنى الشمولي الذي أراده الله للناس جميعاً، فهو البيت العالمي للعبادة، أما البيوت التي كانت قبله ـ لو كانت هناك بيوت للعبادة قبله ـ فهي بيوت محلية خاصة بالمجتمع الذي يعيش حولها. [السيد فضل الله، تفسير من وحي القرآن، ج:6، ص:161].