* د. إبراهيم غلوم
الثقافة هي إنتاج المجتمع بكل ما فيه من تنوع وتناقض، وتغير وثبات، وبكل ما هو عليه من أفكار وتجارب متحققة وغير متحققة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. والحديث عن الثقافة ـ الآن ـ لا ينبغي أن يكون بعيداً عن حكمة الانثروبولوجيا. الحكمة التي كشفت عبر رحلة طويلة من البحث والتأمل والمعايشة، ومعاينة الأقاصي، كشفت لنا الصورة التي يكون عليها مجتمع ما في مكان ما، وصاغت لنا من هذه الصورة مصطلح الثقافة الذي تداولناه طويلاً في ظلام من الأوهام التي ننتجها وفق رؤية مضللة خضعنا لها ضمن الخضوع للمركزيات المحلية.
وقبل أن نعبر مصطلح الثقافة لابد أن نرى إلى ما تعنيه (التحديات) وفق الصيغة المفترضة (الثقافة والتحديات..) ففي ضوء ما نراه من أن الثقافة هي إنتاج المجتمع فان التحديات تغدو حقلاً مشمولاً في مصطلح الثقافة. إنها ليست سوى مجموعة معقدة من الظروف والإشكاليات التي ننتجها في الواقع والمستقبل بارادتنا ورغباتنا الواعية وغير الواعية .. نحن نخلق التحديات ونفرزها من جلدتنا، ونهيئ الظروف المناسبة لإنتاجها. نحن نجذرها ونحكم حلقاتها في أعناقنا، وحين نكابد الضعف والتهميش ـ وخاصة في ظل مركزية النظام الاقتصادي العالمي الراهن ـ نعود إلى مصطلحات: التحديات، المستقبل، العولمة، الغزو الثقافي، النظام العالمي الجديد، وغيرها فنبحث فيها كما نبحث في مصطلح القضاء والقدر.
ولابد أن نعترف بمبدأ أساس من أجل صياغة معنى واضح للتحديات يجعلها تلتبس بصورة الواقع والمستقبل في آن. هذا المبدأ هو ضرورة نقد الذات .. ونقد الواقع، الأول بوصف الذات وعياً مؤسساً للفكر حسب تعبير بعض المفكرين والثاني بوصف الواقع ميداناً عملياً لذلك الوعي تتمثل فيه المعطيات والأحداث وتتشكل من ثم سيرورة لخطاب ثقافي شامل.
في ضوء ذلك، ليست التحديات سوى معطيات جارية ومتحققة في واقعنا الثقافي على صعيد السياسة والمجتمع والإعلام والفكر والإبداع، وحريُّ بنا أن ننظر إليها باعتبارها أفق المستقبل المنظور، إذ لا جدوى من البحث عن المستقبل بأسلوب التنبؤ، والبحث عن الممكنات دون علة أو سبب يتصل بالواقع ..
إن التحديات مفردة صنعتها الهوة الكبيرة بين واقع المجتمع في الخليج والبلاد العربية وبين مستقبلها. الهوة التي أصبحت حاضرة في أشكال وعينا ولا وعينا، وباتت تتمثل أكثر في ضعفنا إزاء قوة الآخر .. وهزيمتنا في مقابل انتصاراته وهيمنته، وتبعيتنا في مقابل مركزيته فكراً وإبداعاً وإنتاجاً، وبسبب ذلك أصبحت هذه التحديات سواء اتصلت بالمستقبل أو بالتطورات المذهلة في العلوم وثورة المعلومات سلسلة من الوقائع في سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين، وقد تعمدت أن أطرح عنواناً يقدم فرضية معكوسة ومضللة في سياق دراسة تلك الوقائع لا لشيء سوى لأن هذا العنوان يعبر بقوة عما هو سائد في خطاب المثقفين المنتمين إلى شتى الاتجاهات والمواقع .. ذلك أن السائد في هذا الخطاب افتراض التحديات بوصفها (الآخر) الذي يتهددنا ويهيمن علينا ويضعف خياراتنا وارادتنا واستقلالنا ..
إن قوام الفرضية المعكوسة (السائدة) الفصل بين (الثقافة) و(التحديات)، واستراتيجيتها البحث عن الثقافة وسط نفوذ التحديات المحلية والعالمية، ومنهجها الفصل بين المحلي والعالمي فيما يجري بين ظهرانينا .. كيف يمكن الفصل هذا والمواطن عندنا يقضي (25) ساعة من اليوم أمام التلفزيون متابعاً الغث والسمين في ثقافة قنوات البث الفضائي؟؟ وكيف يمكن الفصل إزاء مشهد تتطلع فيه أنظمتنا إلى التغيير والنمو وسط ضغوط النظام الاقتصادي العالمي وهيمنة (صندوق النقد الدولي) وضغوط النمو المضاد للحركات الاجتماعية والأصولية.
التحديات جدار بنيناه بأيدينا، وجعلنا سبيكته من أفكارنا وأوهامنا، فهي إحدى معطيات الثقافة التي هي (نحن)، ولا يمكن ـ بذلك ـ أن تكون التحديات سابقة على الثقافة، كما لا يمكن قبول استراتيجية البحث عن الثقافة وسط غزو التحديات، وكأن الغياب للثقافة والحضور للتحديات، أو كأن البحث إنما هو بحث عن دور لهذه الثقافة لا غير.
وإذا كان هدف مناقشة التحديات ايجاد مخرج متوازن لمستقبل الثقافة فإن من الضرورة مواصلة تفكيك سرد العلاقة بين الثقافة والتحديات. ذلك أن تكوين المفردتين العالقتين: (الثقافة مفرد، والتحديات جمع) يطرح أسئلة عديدة، أسئلة قد تبنى أجواء جادة للحوار، وخاصة حول قضية مركزية مثل قضية الثقافة.
ماذا تثير مفردة الثقافة؟ وماذا تثير مفردة التحديات في إطارها المحلي أو العربي أو العالمي وفي زمانها الراهن أو المستقبل؟ هل يستهدف تكوين المفردتين نظراً استراتيجياً جديداً؟ أم أنه يغوص بنا أكثر في الحوار مع المركزيات المحلية والعالمية؟ هل تثير مفردة الثقافة شأناً يتصل بتحديد مفهومها وعناصرها وسياقها التاريخي والحضاري؟ وهل تثير التحديات شأناً يتصل بأوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة والمستقبلية؟.
وفي عبارة أخرى أكثر شمولاً: هل ننتج أسئلتنا المتجددة عن الثقافة والتحديات وفق ضغوط محلية وعالمية؟ أم ننتجها وفق ترتيبات وأزمات طارئة؟ أم ننتجها وفق خطاب استراتيجي جديد عن الثقافة أساسه الوعي الجديد بأن عوامل ثقافية أساسية تقف وراء أزماتنا في الاقتصاد والسياسة والصراع؟
أسئلة كثيرة قد تمتد وتتجدد (وهي كذلك دائماً حول مسألة الثقافة) لا نثيرها من أجل صياغة شكوك ومواقف مشحونة بالريبة، كما قد يتوهم، وإنما نثيرها لأن الثقافة هي خندقنا جميعاً. والمسؤول الحقيقي عن الثقافة هو المجتمع الذي ينتجها بكل نخبه وتشكيلاته من القاع إلى القمة .. الأسئلة هنا محاولة للتورط المشترك وصولاً إلى صناعة قرار مشترك أيضاً.
والعودة إلى تكوين المفردتين السابقتين (الثقافة والتحديات..) يجيب بالصدمة على بعض تلك الأسئلة. فالصياغة التالية: (الثقافة والتحديات المحلية والعالمية) تدفع الخطاب الثقافي في نحو التمركز عند بؤرتي السلطة المحلية المركزية والسلطة العالمية المركزية، وفي سياق الوهم ـ أيضاً ـ بانفصالهما، وصياغة تدفع بالخطاب على هذا النحو تبعث بدون شك فضاء من التوتر والصدام لأنها تمركز وجهة النظر السائدة عن الثقافة، وتؤكد أن موضع هذه الثقافة إنما يقع في الهامش الأخير. إنه الموضع الذي لا يشكل محوراً في استراتيجية الخطاب السياسي لدول مجلس التعاون (الخطاب بالمعنى الشامل).
إن الثقافة بمفهومها الأنثروبولوجي الذي حددناه لا تطرح ضغوطها وظلالها في خطابنا السياسي، ولا تبعث لدى هذا (السياسي) ضرورات الاعتراف بتداعيات التغير والتنوع في مجتمع ينتجه تكوين اثنوغرافي متنوع متغير.
ولا أسعى هنا للأخذ بأي تصنيف مسبق أو الربط الجاهز بين الثقافة السائدة والسلطة السائدة، وإنما أحاول مناقضة المدلول السوسيولوجي غير الحيادي في السردية المصغرة المطروحة دائماً في صيغة من قبيل (الثقافة والتحديات .. أو الثقافة والمستقبل) والقول بأن الثقافة هي قوانا المشتركة إنما يؤسس أول ما يؤسس فضاء مفتوحاً يتجنب تأثيم سلطة محددة و نخبة محددة.
لقد سارعت للتمسك بحكمة الانثروبولوجيا الثقافية متحاشياً الدخول في مصفوفات التعريفات الكثيرة للثقافة، وذلك انطلاقاً من يقيني الواضح بأن صياغتي للتحديات محلية كانت أم عالمية واقعية كانت أم مستقبلية لا يمكن أن تتم في معزل عن مفهوم واضح وحيادي للثقافة. مفهوم لا يتسع للاعتراف بأن الثقافة هي الكيفية التي ننتج فيها مجتمعنا فحسب، وإنما يتسع لتداعيات هذا الاعتراف، ولاعتباراته التي لا حصر لها، ولاحتكامه الأبدي لكل ما هو واقعي متحقق أو ممكن التحقق. ولكل ما هو منقسم ومتعدد أو مختلف ومتفاوت أو نسبي وحتمي. الثقافة بهذا المعنى لا تنتج نخباً فحسب، ولا ايديولوجيا واحدة فحسب، ولا سلطة مركزية فحسب، ولا طائفة واحدة فحسب، ولا ديناً واحداً فحسب .. إنها ليست شعراء أو كتابً أو مبدعين فحسب، وليست سياسيين وأساتذة وتكنوقراطيين فحسب إنها بنية متعددة الحضور لكل جماعة من البشر، أو لمجموعهم داخل المجتمع الذي ينتمون إليه.
وفي سياق هذا المفهوم، لن نفهم التحديات إلا بوصفها القوة الباعثة لتشكيل الأفكار والتجارب الخلاقة، إنها ليست واقعاً حتمياً سابقاً في وجوده على الثقافة، بل أنها بمثابة القوى المبتكرة لهذه الثقافة، وهي قوى نعتقد أنها لم تتمركز في تشكيل النظام الحديث للدولة، ومن ثم لم تعد اعتباراتها فاعلة في صناعة القرار، وصياغة الرؤية، وتحديد الاستراتيجيات وترتيب الأولويات