إِن الصيام وسائر التشريعات الإلهية فضلا على أنها عبادة لله تعالى فهي أيضا لتحقيق مصلحة روحية وسلوكية وبدنية لازمة لهذا الإِنسان للحفاظ على صحته الجسدية؛ لذلك فرض الله سبحانه وتعالى الصيام علينا وعلى جميع الأمم قبلنا، قال تعالى: ( يَا أيهَا الَّذِينَ آمنوا كتِبَ عَلَيكم الصِّيَامُ كما كتب عَلَى الَّذِينَ من قَبْلكمْ لعلكم تتقون) (البقرة183) كما أخبرنا جل في علاه أن في الصيام خيرا ليس للأصحاء المقيمين فقط، بل أيضا للمرضى والمسافرين، والذين يستطيعون الصوم بمشقة ؛ ككبار السن ومن في حكمهم، قال تعالى: (أياماً معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) (البقرة184 ).
والخير اسم تفضيل - على غير قياس -وهو الحسن لذاته ولما يحقق من لذة أو نفع أو سعادة، فالصيام حسن لذاته، ولما يحققه للمؤمن من المنافع واللذة الروحية والسعادة في الدنيا والآخرة. ومعنى {إن كنتم تعلمون } أي فضيلة الصوم وفوائده.
وهذه المنافع والفوائد متحققة لكل مكلف من الأصحاء المقيمين، والذين يصومون بلا مشقة زائدة من أهل الرخص الذين يستطيعون تناول وجبتي الفطور والسحور كالأصحاء، ولا يوجد بحث علمي- فيما أعلم- أجري على الصائمين الأصحاء، في الظروف الطبيعية، إلا وأفاد أحد أمرين: إما عدم تأثير الصيام على وظائف الأعضاء ومكونات الجسم بأي قدر يشكل خطورة على الجسم أو يسبب ضررا محققا على معظم الأمراض. أو أنه يظهر فائدة جلية في بعض هذه الوظائف، أو يحسن بعض مكونات الجسم ووظائف الأعضاء في الشيخوخة , أو أثناء الحمل، أو الرضاعة أو أثناء السفر، بل وأثبتت الأبحاث بأن الصيام يساعد في شفاء بعض الأمراض.
وبذلك يظل في الصيام خير لمعظم المرضى، والمسافرين، والمطيقين للصيام، ويكون محققا لهم من الفوائد والمنافع الشيء الكثير الذي لا يعلمونه.فالصيام للمرضى والمسافرين والمطيقين هو الأولى والأنفع، مالم تضعف النفس عن تحمل المشقة، أو يصيبها أو يصيب الجسد ضرر محقق: ففي الأولى تكون الرخصة، وفي الثانية تكون العزمة، ويتعين الإفطار، وبهذا قال بعض أهل التفسير وجمهور الفقهاء.وقد تجلت هذه الفوائد واستقر خبرها في زماننا هذا، وسنلخص في هذه المقالة علاقة الصيام بالشفاء من الأمراض قديماً وحديثاً.
الصيام وسيلة علاجية
بعد انتشار الإسلام وممارسة الصيام الإسلامي عند كثير من الأمم تبين فضل هذا الصيام وفوائده، " فوصف الطبيب المسلم ( ابن سينا ) الصوم لمعالجة جميع الأمراض المزمنة، ووصف الأطباء المسلمون في القرنين العاشر والحادي عشر ( الميلادي ) صوم ثلاثة أسابيع للشفاء من الجدري، ومرض الداء الإفرنجي ( السيفلس )، وخلال احتلال نابليون لمصر جرى تطبيق الصوم في المستشفيات للمعالجة من الأمراض التناسلية ".
وفي عصر النهضة في أوروبا، أخذ علماؤها يطالبون الناس بالحد من الإفراط في تناول الطعام وترك الانغماس في الملذات والشراب ويقترحون الصوم للتخفيف من الشهوات الجامحة. وفي ألمانيا وجد الطبيب ( فريدريك هوفمان ) ( 1660-1842 م ) أن الصوم ( يقصد به التجويع المتواصل وهو ما يعرف بالصيام الطبي) يعين على معالجة داء الصرع والقرحة والسرطانات الدموية والساد(أ) الذي يصيب العينين وأورام اللثة ونزيفها والقرحة الجفنية، كما أعلن أنه ينصح المريض في أي مرض كان، ألا يأكل شيئا.
وفي روسيا، توصل الأطباء إلى نتيجة مماثلة، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين... فلقد تقدم الدكتور ( بيترفينيا مينوف ) من جامعة موسكو بتقرير نشر في سنة 1769 م نصح فيه المرضى بالتوقف الكلي عن الطعام أثناء فترة المرض... وعلل ذلك بقوله: " إن الصوم يعطي المعدة فترة راحة تمكن المريض من الهضم بشكل مناسب عندما يتعافى، ويعود إلى الأكل ثانية "، بعد ذلك أعلن الدكتور( ب. ج. سباسكي ) الأستاذ في جامعة موسكو، عن النجاح في معالجة ( الحمى الراجعة ) بالصوم، وقال: " إن الصوم يسمح بحدوث المعالجات المتزايدة في داخل الجسم، دون تدخل من الخارج، وهذا في الحقيقة علاج للأمراض المزمنة"(ب).
وفي القرن التاسع عشر أعلن الطبيب الروسي ( زيلاند ) أن الصوم قد أثر إيجابيا على الجهاز العصبي للمريض، كما أثر تأثيرا لا بأس به على هضمه ودمه بوجه عام، وكتب قائلا: إن الصوم يسمح للجسم بأن يرتاح ثم يستأنف نشاطه الطبيعي بقوة متجددة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية بدأ الاهتمام بالصوم باعتباره علاجا للمرضى، منذ القرن الماضي. فقد عالج الدكتور ( إدوارد ديوي ) قبل قرن بالصوم كلا من الاضطرابات المعدية والمعوية، وداء الاستسقاء، والالتهابات العديدة، بالإضافة إلى الضعف والترهل الجسدي... وكان يري أن الراحة من الطعام - وليس الطعام - هي التي ترمم الجهاز العصبي، في حين أن الطعام - بالنسبة للمريض - يسبب توترا شديدا بقدر التوتر الذي يسببه العمل المتعب، ويؤكد على أن الطعام خلال المرض، يصبح عبثا على المريض.