قيس وليلى
حكاية ليلى والمجنون هي من أغلب قصص الحب المشهورة على الإطلاق.
بل أغلبها شهرة ومعرفة عند العام والخاص.
ولا بأس من إعادة ذكرها لمن لا يعرف تفاصيلها بشكل جيد.
المجنون هو قيس بن الملوح العامرى ابن عم ليلى.
حدثت هذه القصة في صدر الإسلام ، في القرن الأول الهجرى، في وقت كانت البادية العربية تعيش في عزلة نسبية .
بدأت قصتهما كما تبدأ أكثر قصص الحب فى البادية في المرعى، وهما صبيان يلعبان ويرعيان ماشية أهلهما.
وكبر العاشقان، وكبر معهما حبهما، وحجبت ليلى عن قيس، فازداد حبه لها، واشتد حنينه إلى أيامهما الصغيرة أيام أن كان الحب طفلا يرعاهما دون رقيب أو حجاب.
يقول قيس :
تعلقت بليلى وهي ذات ذؤابة ** ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم، ياليت أننا ** إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
ولكن عجلة الزمن لا ترجع إلى الوراء، وطفل الحب الذي رعاهما في صباهما الصغير يكبر وينمو، ويشتد ساعده، ويقوى عدوه، وسهامه الصغيرة الرقيقة التي ضمت قلبيهما صبيين في المرعى أصبحت بعد أيام الصبا حادة نافذة.
لقد جاء الإسلام فرفع منزلة المرأة العربية فلم تعد واحدة من أساليب اللهو التي اعتاد عليها البدوي ليحقق وجوده الضائع في الصحراء المترامية الأطراف إلى جانب الخمر والميسر.
إن الدين الجديد يحرم عليه الخمر ويحرم عليه الميسر، ويفرض عليه قيودا دينية واجتماعية وخلقية.
وكان الشاب ينظر حوله، فلا يرى إلا بنات أعمامه، إنهن رفيقات اللعب في الصبا، وأول من يتعرف إليهن من نوع الأنثى فيختار الشاب إحداهن ، تسحره نظرة منها أو التفاتة أو كلمة عابرة ، ويميل القلب نحوها ولكن فجأة تختفي بنت العم تماما ، فالتقاليد تحجبها داخل خيمتها، لا تخرج منها إلا بصحبة حارسة، وللضرورة .
هذه الظروف ما هي إلا تربة خصبة لنمو العاطفة واشتعالها ، فيستبد الوجد والشوق إلى المحبوبة ويزداد التعلق بها، وتسيطر صورتها على خيال الحبيب ولا يفكر إلا فيها ، إن حياته كلها أحلامه وأشواقه تتركز في نقطة واحدة ، أن يراها .
ويتحول الشاب الذي كان يزهو بفتوته بين أقرانه، إلى شبح هزيل يجبو الصحراء، تتقاذفه العلل والأوهام، يردد أبيات شعر رائعة عن حبه وعن ذكريات طفولته ويذكر فيها محبوبته كثيراً.
هذه إجمالا ملخص القصة والكثير من القصص المشابهة لها.
اشتد هيام قيس، ولم يجد إلا شعره متنفسا له ينفس فيه عن نفسه ما تنوء به من وجد وشوق وحنين.
واشتهر أمره في الحي، وتداولت الألسنة قصة حبه.
تقدم قيس إلى عمه طالباً الزواج من ابنته ليلى ، وبدلا من أن يفرح العم ويرحب، إذا به يرفض، ويصر على الرفض .. لماذا ؟
لأن التقاليد تمنع العرب من الموافقة على زواج ابنته من رجل تشبب بها أي تغزل فيها في شعره !
وفي نفس الوقت تقدم فتى من ثقيف يخطبها أيضا، ويكرهها أهلها على قبول الثقفي ورفض قيس خوفاً من العار وقبح الأحدوثة، وقطعاً لألسنة الشائعات وقالة السوء والإفك.
ومضى الثقفي بليلى إلى الطائف، ولعل ذلك الحل كان بوحي من أبيها الذي شاء أن يبعدها عن مسرح الأحداث .
وازدادت حيرة قيس واضطرابه، وثقلت على نفسه الهموم والأحزان، وصار يحس أنه بين شقي رحى طاحنة : حب لا يملك منه فكاكا، ويأس لا يرى معه بصيصاً من أمل.
ولا يجد سوى شعره مرة أخرى ينفس فيه ما تفيض به نفسه من حزن وشجن، وحيرة واضطراب، وضيق وسخط.
يقول :
فأنت التي إن شئت أشقيت عيشتي ** وإن شئت بعد الله أنعمت باليا
وأنت التي ما من صديق ولا عدا ** يرى نضو ما أبقيت إلا رثى ليا
إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتني ** أصانع رحلي أن يميل حياليا
يمينا إذا كانت يمينا، وإن تكن ** شمالا يناز عني الهوى عن شماليا
أعد الليالي ليلة بعد ليلة ** وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
أرانى إذا صليت يممت نحوها ** بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
وما بي إشراك، ولكن حبها ** كمثل الشجا أعيا الطبيب المداويا
أحب من الأسماء ما وافق اسمها ** وأشبهه أو كان منه مدانيا
هي السحر إلا أن للسحر رقية ** وأني لا ألفي لها الدهر راقيا
ويقول أيضا مصورا الصراع بين اليأس الذي يميته، والأمل الذي يحييه:
ألقى من اليأس تارات فتقتلني ** وللرجاء بشاشات فتحييني
ويقول مصورا السخط الذي تنوء به نفسه الحزينة المتمردة:
خليلي، لا والله لا أملك الذي ** قضى الله في ليلي ولا ما قضى ليا
قضاها لغيرى، وابتلاني بحبها ** فهلا بشئ غير ليلى ابتلانيا
وانهار أعصاب قيس تحت وطأة هذه الرحى الطاحنة، وجن جنونه ، بعد أن ترك وحيدا، وعصفت بعقله العواصف ، فخرج إلى الصحراء هائماً على وجهه لا يكاد يدري من أمره شيئاً، يناجي خيالها البعيد، ويصور فى شعره محنته القاسية، ومصابه الفاجع في أعز ما يملك فى الحياة : قلبه وعقله اللذين ذهبت بهما ليلى إلى غير رجعة.
يقول :
أقول لأصحابى: هي الشمس ضوؤها ** قريب ولكن في تناولها بعد
لقد عارضتنا الريح منها بنفحة ** على كبدي من طيب أرواحها برد
فما زلت مغشيا علي، وقد مضت ** أناة وما عندي جواب ولا رد
أقلب بالأيدي، وأهلي بعولة ** يفدونني لو يستطيعون أن يفدوا
ولم يبق إلا الجلد والعظم عاريا ** ولا عظم لي أن دام ما بي ولا جلد
أدنياي ما لي في انقطاعي وغربتي ** إليك ثواب منك دين ولا نقد
عديني - بنفسي أنت - وعداً فربما ** جلا كربة المكروب عن قلبه الوعد
وقد يبتلي قوم ولا كبليتي ** ولا مثل جدي في الشقاء بكم جد
غزتني جنود الحب من كل جانب ** إذا حان من جند قفول أتى جند
ولا شك أن عقله عجز تماما عن فهم أو تقبل ذلك المنطق الذي خضع له عمه، وكل القبيلة، التي لم يحاول أحد فيها أن يلين من صلابة رأس ذلك الرجل، أو يوفق بين الرأسين في الحلال.
ولا شك أن ذلك العم كانت لديه أسباب عديدة .. لكن أحدا لم يخبرنا عنها .
إننا نعرف فقط أن التقاليد العربية في ذلك الوقت هي التي أملت عليه كلمة لا، وأن هذه الكلمة تعلقت بلسانه، وسدت أذنيه وأغمضت عينيه فلم ير ابن اخيه يهيم في الصحراء، ولم يرق قلبه وهو يستمع لأرقى الشعر يردده كل الناس بعد قيس، يصور فيه لوعته ويذيب شبابه الغض قطرة قطرة على رمال الصحراء التي لا ترتوي .
وتمر الأيام، وقيس لا يزداد إلا سوءا، لقد غزته حقا كما يقول "جنود الحب من كل جانب"، بل لقد غزته جنود الجنون حتى ذهبت بعقله، وهو جنون بالغ فيه الرواة وتخبطوا في تصويره، ولعب خيال القصاص في ذلك دوراً كبيراً، حتى تحولت حياة العاشق المسكين على أيديهم إلى حياة يصعب - بل يستحيل - تصورها.
والمسألة أبسط مما تصوروا، لقد سيطر الحب على عقل قيس، واستبد به، حتى أذهله عن كل ما عداه، وتركه تائهاً في أوهامه، هائماً في خيالاته، لا يكاد يصحو منها إلا إذا ذكرت له ليلى.
وهو يصور فى شعره حاله تصويراً دقيقاً لا صلة له بمبالغات الرواة وأخيلة القصاص.
يقول مرة :
أيا ويح من أمسى تخلس عقله ** فأصبح مذهوباً به كل مذهب
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت ** عوازب قلبي من هوى متشعب
ويقول أخرى :
وإنى لمجنون بليلى موكل ** ولست عزوفا عن هواها ولا جلدا
إذا ذكرت ليلى بكيت صبابة ** لتذكارها حتى يبل البكا الخدا
ويقول أيضأ :
وشغلت عن فهم الحديث سوى ** ماكان فيك فإنه شغلي
وأديم لحظ محدثي ليرى ** أن قد فهمت وعندكم عقلي
وبذل أهله كل ما في وسعهم لينقذوه مما آلت إليه حاله، ولكن محاولاتهم ذهبت جميعا أدراج الرياح.
يقول قيس بن الملوح مصوراً اضطرابه والحيرة التي به أدق تصوير وأروعه:
فوالله ثم والله إني لدائب ** أفكر ما ذنبي إليك وأعجب ؟
ووالله ما أدري علام قتلتني ؟ ** وأي أموري فيك يا ليل أركب ؟
أأقطع حبل الوصل فالموت دونه ؟ ** أم أشرب رنقا منكم ليس يشرب ؟
أم أهرب حتى لا أرى لي مجاورا ؟ ** أم أصنع ماذا أم أبوح فأغلب ؟
فأيهما يا ليل ما ترتضينه؟ ** فإني لمظلوم ، وإني لمعتب
إنها الحيرة والاضطراب والقلق النفسي عبر عنهما قيس هذا التعبير الرائع، معتمدا على هذا الأسلوب الاستفهامى الحائر، وهذه التقسيمات المضطربة القلقة لوجوه المشكلة التي يعانيها كما يعانيها غيره من أصحابه العذريين.
وظل قيس في صحرائه غريباً مستوحشاً مشردا لم تبق منه إلا بقية من جسد هزيل، وبقية من عقل شارد كلما ثبت إليه فزع إلى شعره يبثه ما يلقاه في حب ليلى من عناء وشقاء، وما يقاسيه بسببه من كرب وتباريح، حتى لقي منيته في واد مهجور خشن كثير الحجارة ، بعيداً عن أهله، وليلى التي عذبه حبها ، وبعيداً عنها بعد ما وهب لها حياته وفنه، بعيداً عن أبيها الذي كان سبب شقائه وبلواه، ولكنه لم ينسى أن يوجه إليه قبل أن يودع الحياة أبياتا وجدت بعد موته مكتوبة إلى جواره، والتي صور فيها ما تفيض به نفسه من حقد عليه، كما صور فيها مأساته الحزينة تصويراً دقيقاً مؤثراً :
ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى ** شقيت ولا هنيت من عيشك الغضا
شقيت كما أشقيتني وتركتني ** أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا
كأن فؤادي في مخالب طائر ** إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم ** علي فما تزداد طولا ولا عرضا
إنها النتيجة الطبيعية لهذا الصراع الدائب المتصل الذي لا يهدأ ولا يستقر.
أسقام وأدواء وأوجاع وعلل تهجم على العاشق المسكين، فينوء تحت وطأتها جسده الذي أهزله الضنى، وأضناه الهزال، وتنهار معها أعصابه التي أرهقها الصراع النفسي الذي لا ينتهي إلى نهاية مريحة، والتي أجهدها التفكير في مشكلات معقدة لا حل لها.
فالموت فعلا راحة لكل حي.
ولاشك أنه كان شخصية فريدة من نوعها .. أو لعلها المبالغات التي يولع بها الناس فيزينون بها قصص الحب تعبيراً عما تختزنه قلوبهم من كبت وحرمان.
يقولون : إن قيساً كان يغمى عليه كلما ذكر اسم ليلى، سواء كان الحديث عنها بمكروه أو بخير فهو يغشى عليه بمجرد سماعه اسمها !
ويقولون إنه وقف ذات يوم يتحدث إلى ليلى وفي يده جمرة من نار فأخذت النار تحرق رداءه حتى أتت عليه ووصلت إلى جسمه وقيس لا يشعر !
وفي أواخر أيامه حكي عن قيس أنه عاش مع الوحش فأنس إليه وفضله على بني الإنسان، وأن الوحوش أيضاً صارت تأنس إليه ! فقلوبهم رقت لحاله، بينما ظلت قلوب أهله كالحجر الذي لم يتفتت ولم يذب لسماع أشعار قيس الرائعة.
وأسدل الستار على مأساة أخرى من مآسي الحب العذري.
وفي انتظار قصة من نفس النوع وغير بعيدة في الزمن ولا في الحداث عن هذه.