الحمد لله الذي أمرَ بمحاسبةِ النفوس ، وجعلَ عملها للصالحاتِ خيراً من الجلوس ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له ، الذي رفعَ بالمحاسبةِ الرؤوس ، وأعلى بها النفوس ، وأشهدُ أنّ سيدنا محمداً عبده ورسولُـه ، طبيبُ النفوس ، أمر بمحاسبةِ النفس ، قبلَ اليومِ العَبوس ، صلى الله عليه وسلمَ كلما حوسبت نفسٌ وأُزيلَ رجس ، وعلى آله وصحبه ومن سارَ على نهجهِ إلى يوم الدين ، أما بعد : إن من أعظمِ الأمانات أمانةُ النفس ، فهي أعظمُ من أمانةِ الأموالِ والأولاد ، أقسمَ الله بها في كتابه ، ولا يقسمُ الله إلا بعظيم ، قال تعالى : ) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( وقد جعلَ الله لهذهِ النفس طريقين : طريقُ تقوىً وبه تفوزُ وتُفلح ، وطريقُ فجورٍ وبه تَخسر وتَخيب .
والناظرُ في حالِ الناسِ اليوم ، يرى رُخص النفوسِ عند أهلِـها ، ويرى الخسارةَ في حياتِـها لعدمِ مُحاسبتِها ، والذين فقدوا أو تركوا محاسبةَ نفوسِهم سيتحسرون في وقتٍ لا ينفعُ فيه التحسر ، يقول جل شأنه : } أنْ تَقولَ نَفسٌ يا حَسْرتى عَلى ما ! فَرطتُ في جَنْبِ اللهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ الساخِرين { .
وبتركِ محاسبة النفس تسلط الشيطانُ الذي دعا إلى المعصية ، وحذّر من الطاعة ، وزينَ الباطل ، وثبطّ عن العَملِ الصالح وصدّ عنه . وبتركِ محاسبة النفس تمكنت الغفلةُ من الناسِ ، فأصبحَ لهم قلوبٌ لا يفقهونَ بها ولهم أعينٌ لا يبصرونَ بها ، ولهم آذانٌ لا يسمعونَ بها ، أولئكَ كالأنعامِ بل هم أضل ، أولئكَ هم الغافلون .
يقول جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
يقولُ ابنُ كثيرٍ – رحمه الله – في تفسيرِ قولِه تعالى : { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } : (( أي حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِـكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِـكم على ربِكم ، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم ، لا تخفى عليهِ منكم خافيه )) انتهى كلامه رحمه الله .
* ويترتبُ – كذلكَ – على ترك محاسبة النفس أمرٌ هامٌ جداً ، ألا وهو هلاكُ القلب ، هـلاكُ القلب ! يقولُ ابنُ القيّم – رحمه الله - : " وهلاكُ القلب من إهمالِ النفسِ ومن موافقتها وإتباع هواها " .
وقالَ رحمه الله في إغاثةِ اللهفان : " وتركُ المحاسبة والاسترسالُ وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتُـها ، فإنَّ هذا يقولُ بهِ إلى الهلاكِ ، وهذه حالُ أهلِ الغرور ، يُغْمضُ عينيهِ عن العواقبِ ويُمَشّي الحال ، ويتكلُ على العفو ، فيهملُ محاسبة نفسهِ والنظرُ في العاقبة ، وإذا فعلَ ذلكَ سَهُلَ عليه مواقعةُ الذنوبِ وأنِسَ بها وعَسُرَ عليه فِطامُها ولو حَضَرَه رُشْدَه لعلِم أنّ الحميةَ أسهلُ من الفِطام وتركُ المألوف والمعتاد " انتهى كلامه رحمه الله . وكتبَ عمرُ بن الخطابِ t إلى بعضِ عمُّالِهِ :
(( حاسب نفسكَ في الرخاء قبلَ حسابِ الشدة ، فإن من حاسبَ نفسهُ في الرخاءِ قبلَ حساب الشدة ، عادَ أمرُه إلى الرضا والغبطة ، ومن ألهته حياته وشغلتْـهُ أهواؤه عادَ أمرُه إلى الندامةٍ والخسارة )) .
وكان الأحنفُ بن قيسٍ يجيءُ إلى المصباحِ فيضعُ إصبَعهُ فيه ثم
يقول : يا حُنيف ، ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟ ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟
وقال الحسن – رحمه الله - : " إن المؤمنَ واللهِ ما تراهُ إلا يلومُ نفسهُ على كلِّ حالاته ، يستقصرها في كل ما يفعل ، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ ، وإنّ الفاجرَ ليمضي قُدُمـاً لا يعاتبُ نفسَه " .
فيجبُ أن يكونَ المؤمنُ محاسباً لنفسهِ مهتماً بها ، لائماً على تقصيرِها قال الإمامُ ابنُ القيمِ رحمه الله تعالى : (( ومن تأملَ أحوالَ الصحابةِ رضي الله عنهُم وجدَهم في غايةِ العملِ معَ غايةِ الخوف ، ونحن جمعنا بين التقصير ، بل بين التفريطِ والأمن )) .
هكذا يقولُ الإمامُ ابن القيمِ عن نفسه وعصره !
فماذا نقولُ نحنُ عن أنفسِـنا وعصرِنا ؟!
* * *