مسلم، عن الأحنف بن قيس قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل، فلقينى أبو بكرة فقال: أين تريد يا أحنف؟ قال: فقلت: أريد نصرة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى عليًا، قال: فقال لى: يا أحنف ارجع، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول فى النار) قال: فقلت: أو قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: (إنه قد أراد قتل صاحبه) أخرجه البخارى، وفى بعض طرقه: (إنه كان حريصًا على قتل صاحبه).
فصل: قال علماؤنا: ليس هذا الحديث فى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله} [الحجرات: 9]، فأمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية، ولو أمسك المسلمون عن قتال أهل البغى، لتعطلت فريضة من فرائض الله، وهذا يدل على أن قوله: القاتل والمقتول فى النار، ليس فى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم إنما قاتلوا على التأويل.
قال الطبرى: لو كان الواجب فى كل اختلاف يكون بين الفريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل وكسر السيوف لما أقيم حد، ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين، وسبى نسائهم، وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا هذه فتنة قد نهينا عن القتال فيها، وأمرنا بكف الأيدى والهرب منها، وذلك مخالف لقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا على أيدى سفهائكم).
قلت: فحديث أبى بكرة محمول على ما إذا كان القتال على الدنيا، قد جاء هكذا منصوصًا فيما سمعناه من بعض مشايخنا: إذا اقتتلتم على الدنيا، فالقاتل والمقتول فى النار. خرجه البزار.
ومما يدل على صحة هذا ما خرجه مسلم فى صحيحه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذى نفسى بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتى على الناس يوم لا يدرى القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قتل) فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: (الهرج القاتل والمقتول فى النار).
فبين هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهالة من طلب الدنيا، أو اتباع هوى كان المقتول فى النار، فأما قتال يكون على تأويل دينى فلا، وأما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم، فيجب على المسلمين توقيرهم، والإمساك عن ذكر زللهم، ونشر محاسنهم لثناء الله عز وجل عليهم فى كتابه.
فقال وقوله الحق: {لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح: 18]، وقال: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29] إلى آخر السورة. وقال: {لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} [الحديد: 10]، وكل من ذهب منهم إلى تأويل فهو معذور، وإن كان بعضهم أفضل من بعض وأكثر سوابق.
وقيل: إن من توقف من الصحابة حملوا الأحاديث الواردة بالكف عن عمومها، فاجتنبوا جميع ما وقع بين الصحابة من الخلاف والقتال، وربما ندم بعضهم على ترك ذاك كعبد الله بن عمر، فإنه ندم على تخلفه عن نصرة على بن أبى كطالب رضى الله عنهما، فقال عند موته: ما آسى على تركى قتال الفئة الباغية، يعنى فئة معاوية، وهذا هو الصحيح. إن الفئة الباغية إذا علم منها البغى قوتلت.
قال عبد الرحمن بن أبزى: شهدنا صفين مع على فى ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان قتل منهم ثلاث وستون منهم عمار بن ياسر.
وقال أبو عبد الرحمن السلمى: شهدنا مع على صفين فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ فى ناحية من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم.
قال: وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة: يا هاشم، تقدم الجنة تحت الأبارقة اليوم ألقى الأحبة محمدًا وحزبه، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا شغفات الجبال لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل ثم قال:
نحن ضربناكم على تنزيله ضربــا يزيــل الهــام عـن مقيلــه فاليوم نضربكم على تأويله ويذهــل الخليـــل عـــن خليلـــه
أو يرجـــع الحـق إلـــى سبيلـــــه
قال: فلم أر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا فى موطن ما قتلوا يومئذ، وسئل بعض المتقدمين عن الدماء التى وقعت بين الصحابة فقال: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} [البقرة: 134].
وقد أشبعنا القول فى هذه المسألة فى كتاب الجامع لأحكام القرآن فى سورة الحجرات، والصواب ما ذكرنا لك أو لا، والله أعلم.
وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ستكون بين أصحابى فتنة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياى، ثم يستن بها قوم من بعدهم يدخلون بها النار).